كتبت: مريم عبدالحافظ
هل توقفت عن السير من قبل لتتذكر هل أغلقت باب منزلك بعد خروجك أم لا؟ وماذا عن مفتاح الغاز؟ هل أغلقته أم تركته مفتوحًا؟ هل أخذت هاتفك معك؟ أم ما زال أعلى الطاولة في غرفة نومك؟
أسئلة يومية اعتيادية تسألها لنفسك أثناء سيرك يوميًا تجاه عملك، ولكن هل استوقفتك تلك الأسئلة ومنعتك من تكملة طريقك؟ هل جعلتك تعود مرةً آخرى بعد أن قطعت كل تلك المسافة للتأكد من أن كل شئٍ على ما يُرام؟
دعني اسألك سؤالًا آخر، هل لك نظام مُعين في ترتيبك لأغراضك؟ إذًا ماذا سيحدث إن اختل هذا النظام؟ إن تقدم عنصر من عناصر مكتبك عن زميله بالصف؟ هل ستغضب؟ إلى أي حد سيصل هذا الغضب؟ هل ستشعر بعدم الراحة لمجرد تحرك أي شئ أمامك عن مكانه الذي اعتدت عليه؟ أم أنك لن تكترث وستيعده لأصله من جديد فقط لا غير؟
تراودنا جميعًا من الحين للآخر أسئلة عن أننا لم ننسى شيئًا بالمنزل قبل النزول للتأكد، وأيضًا بعضنُنا يمتلك طقوسًا خاصة في ترتيب أغراضه، وله شكلًا معينًا يُحِب أن يرى عليه مكتبه أو طاولته، كل هذا ليس بمشكلة، المشكلة تبدأ إن عرقتلك هذه الأسئلة وتلك الطقوس عن ممارسة وتكملة يومك، إن أصبحت هى شغلك الشاغل والمُسيطر الأول على تفكيرك، لـ تتحول من مجرد شخصية وسواسية تُحب النظام، الترتيب، والدقة في كل شئ، إلى شخص مُصاب بـ «اضطراب الوسواس القهري».
يُعد اضطراب الوسواس القهري من أكثر الأمراض والاضطرابات النفسية انتشارًا حول العالم، وهذا بسبب اعتماد ظهوره على عوامل تحفيزيه مبنية على المواقف الحياتية والظروف الصعبة والمِحن التي نمر بها بشكل يومي، بالإضافة إلى عوامل التنشئة والتربية في منزل الشخص والبيئة من حوله.
يتكوَّن الوسواس القهري من مجموعة من الأفكار والمخاوف الغير مبررة، دون أن يكون لها أسبابًا وأدلة تدعم وجودها، فهى أفكار تحتل دماغ الشخص المُصاب به وتُسيطر وتُلِح عليه طول الوقت ولا تتوقف إلا إن قام بفعل معين يُهدئ من تلك الفكرة، فـ تكون تلك الفكرة مثلًا عدم نظافة يده، لهذا تجده حريص على غسل يديه مرارًا وتكرارًا وبشكل خارج عن سيطرته، فقط لتهدأ الفكرة في رأسه.
وتلك الأفكار غير مُقتصرة على النظافة فقط أو ترتيب الأغراض وتنسيقها بشكل معين، فيُمكن أن تأتيك الفكرة في أي شئ مهما بدا لك صغيرًا أو كبيرًا، وتظل تُلِح عليك حتى تُصبح المُسيطر الأول على حياتك وتمنعك من العيش بشكل طبيعي.
*«تم استخدام أسماء مُستعارة للحفاظ على خصوصية أصحاب القصص، وبناءًا على رغبتهم»*
– «غصب عني ودني بقت تتشد لأي كلمة موت بتتقال حواليا وبقيت احسها إشارة ليا»
تروي شاهندا – 26 عام من الإسكندرية، عن أفكارها التي جعلتها تُشخص بـ «وسواس الموت»:
تُسيطر عليَّ فكرة الموت طوال الوقت حتى في المواقف السعيدة، فعندما أفرح أجد صوت بداخلي يُخبرني أن تلك هى الفرحة الأخيرة، وإنتِ سعيدة الآن لأنكِ ستموتين بعد قليل.
وأكملت «شاهندا»: بدأت هذه الأفكار لأول مرة في 2019 بعد أن تعرضت لأخبار حوادث ووفيات كثيرة، وكان الأمر عاديًا في البداية ولكنه تطور واشتدت الأفكار على رأسي، وأصبحت لا أفكر إلا فيها، وفكرت حينها بالتقرب من اللَّه وإصلاح علاقتي به أكثر، والتزمت بالصلاة وشعرت أنني أفضل ولكن سرعان ما ساءت حالتي بعد ذلك وعُدت لنقطة الصفر من جديد.
وتابعت «شاهندا»: لي صديقة تعمل كـ إخصائية نفسية وقامت بتشخيصي بـ الوسواس القهري، وطلبت مني الذهاب إلى طبيب نفسي لإنني سأحتاج إلى دواء معين، ولكن بصراحة لم تساعدني الظروف الاقتصادية لتوفير تكاليف جلسات العلاج النفسي بالإضافة إلى الأدوية، فتكلفتهم عالية جدًا وخارجة عن قدرتي، ومع الأسف منذ شهر وحتى الآن وأنا أعاني من حدة وشدة هذه الأفكار ولكن لا أملك شئٍ لأفعله.
– «كانت بتجيلي فكرة وصوت بيقولي اقتل رضيعي»
قصت لنا فتحية – 43 عام من السودان، تجربتها مع الوسواس القهري ورحتلها في التعافي منه:
أصابني اضطراب الوسواي القهري في 2008 عندما كان عُمر طفلي شهور، وكانت تُسيطر عليَّ فكرة تقول لي اقتلي رضيعك، حتى أنني كنت اتخيل نفسي بعد ذلك والشرطة جاءت لتأخذني والجيران من حولي، وفي كل مرة اتخيل الموقف كانت ضربات قلبي تزداد واتصبب عرقًا.
وتابعت «فتحية»: ذهبت لطبيب نفسي ونصحني بعدم الاسترسال في الأفكار وتخيل الموقف، وبمقاومتها بفعل إيجابي مثل احتضان طفلي وتقبيله كلما هاجمتني تلك الفكرة، وكتب لي دواء مرتين يوميًا، وحين اتحسن كنت اتناوله مرة واحدة فقط.
وأكملت «فتحية»: الحمدللَّه حالتي تحسنت كثيرًا عن ذي قبل وتوقفت عن الأدوية ماعدا علاجات بسيطة للاكتئاب، وحين أخبرني الطبيب أنني تعافيتُ تمامًا من الوسواس القهري احتفلت بي عائلتي، ولكن الجيران مازالوا يخافون مني، فعندما تأتيني طفلتهم يأتون خلفها ركضًا حتى لا يتركوها معي.
وتابعت «فتحية» ضاحكة: قال لي طفل الجيران ذات مرة: أمي تقول عنكِ مجنونة، ولكنني لا أهتم بهذا الحديث، فعلى النقيض يجدني الكثير ممن حولي مُلهمة لهم، فبالرغم من مرضي الذي استمر لسنوات إلا أنني تابعت عملي ونجحت فيه، وساعدت حالات كثيرة للذهاب لطبيب نفسي، وعندما يتملك اليأس من شخص حولي بسبب مرضه أصبحوا يقولون له: «شوف فتحية أقرب مثال».
– «اضطريت اعمل فيك اكونت بـ اسم بنت عشان الاقي حد يساعدني من غير تأليس»
قص لنا خالد – 24 سنة من مصر، حكايته مع الوصم الذي ناله من أصدقائه بسبب أسئلته في مجموعات مُخصصة لمرضى الوسواس القهري:
بدأت المشكلة بعدم انتظام ضربات قلبي وإصابتي بالاكتئاب والتفكير المُفرط، ذهبت لأطباء باطنة وقلب، وقمت بعدة فحوصات وتحاليل للوقوف على سبب ما أمر به، ولكن كل النتائج جاءت سليمة، حينها تم تحويلي لطبيب نفسي وشُخصت كـ مريض وسواس قهري.
أكمل «خالد»: كنت أشعر بخمول في كافة عضلاتي وأنني غير مُتحكم بجسدي ولا أستطيع تحريكه، وكانت ضربات قلبي تزداد بشدة ونفسي يضيق، وكنت أشعر حينها أن هذه هى سكرات الموت، وسيطرت على رأسي أفكار الموت في كل ما أقوم به، فكان صوت عقلي يقول لي إن خرجت من المنزل ستموت، إن تناولت هذا الطعام ستموت، لا تفعل هذا ولا تذهب هناك، وانتهى الأمر بي إلى الانعزال عن العالم.
وتابع «خالد»: وبعد أيام وشهور من المعاناة استمعت لآية تقول: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا»، وقررت في وقتها التقرب من اللَّه وإصلاح علاقتي به، فـ التزمت في الصلاة وداومتُ على الاستغفار، وأصبحت لا أنام دون تشغيل سورة البقرة بجانبي، وهذا خفف عني ما أمر به، ولكنني كنت أحتاج إلى القراءة أكثر عن مرضي لمعرفة كيفية التعامل معه، ولكن هذا جعل أصدقائي يعلمون أنني مريض وسواس قهري من خلال رؤيتهم لـ منشورات أكتبها على مجموعات مُخصصة لمرضى الوسواس على «فيس بوك»، لهذا أنشأت حسابًا مزيفًا حتى أستطيع التعامل بحرية دون استهزاء ممن حولي.
وأضاف «خالد» ضاحكًا: ولكنني لم أحصل على إجابات ولم أجد أحدًا يُساعدني، وكل تلك المساعدات كانت على المنشورات الخاصة بالفتيات، لهذا أنشأت حسابًا آخر ولكن تلك المرة بـ اسم فتاة، حينها فقط وجدت الدعم الذي احتاجه.
– «قولت لزوجتي لو شوفتيني بهجم على بنتنا اقتليني وأنا مسامحك أمام اللَّه دنيا وآخرة»
روى لنا حسَّان – 36 من العراق، عن معاناته مع الوسواس القهري، وأفكاره التي كانت تدفعه لقتل طفلته الصغيرة:
بدأت معاناتي عام 2022 عندما سيطرت على رأسي فكرة قتل ابنتي الصغيرة، ولم استوعب حينها تلك الفكرة فـ ابنتي هى نور عيني وريحانة قلبي، كيف لي أن أقتلها؟
أكمل «حسَّان»: استعذت باللَّه من الشيطان الرچيم وقمت وحملت طفلتي بين ذراعيَّ، فسمعت صوت في رأسي يقول لي اقتلها الآن وهى بين ذراعيك، حينها انتفضت خوفًا وذهبت بها لأمها واتجهت أنا نحو المطبخ، كنت أريد إسكات هذا الصوت بأي شكل وبأي ثمن، لدرجة أنني فتحت الشعلة وحرقت يدي لانشغل بألمي ويصمت هذا الصوت، ولكنه لم يفعل، وصرت أبكي بجنون وأصابني الرعب وتحدثت مع اللَّه ورجوته ألا أُصبح قاتلًا.
تابع «حسَّان»: حينها تحدثت بصراحةً مع زوجتي وأخبرتها عن أفكاري، وقلت لها أنها لابد أن تتدخل وتقتلني إني رآتني أهجم على ابنتي، وأنا أسامحها الآن أمام اللَّه، ولكنها هدأت من روعي وطمأنتني بأنها أفكار من الشيطان، ولكن أفكاري لم تهدأ وصارت تأتيني أفكار متتالية بإلقاء ابنتي الكبيرة من على السطح، وتسميم الآخرى أو خنقها، لهذا أخذتني زوجتي إلى «السيد فلان» ليرقيني.
أضاف «حسَّان» ساخرًا: لم أفهم كيف أذهب إلى هذا الشخص وأصدقه وأنا خريج المعهد والمُتعلم ولا أعتقد أبدًا بهذه الأمور، ولكنني ذهبت معها طائعًا ليُنقذني مما أنا فيه، وقابلته ورويت له ما أمر به ولكن لم يفلح الأمر.
تابع «حسَّان»: تخوفتُ من الذهاب لطبيب نفسي حتى لا يقول الناس عني «حسان أصبح مجنونًا»، لهذا تحملت ذلك العذاب لشهور طويلة، حتى بحثت على «يوتيوب» ووجدت مقاطع ڤيديو تُساعد الأشخاص في معالجة نفسها بنفسها، وكيفية التعامل والسيطرة على هذه الأفكار، والحمدللَّه داومت على متابعتهم وأصبحت مُعافيٍ بنسبة 70%.
– «حاسة إني عجزت بدري اوي وخايفة اموت واسيب بنتي»
حدثتنا زهرة – 38 عام من قنا، عن قصتها مع وسواس الموت لمدة تجاوزت الـ 14 عام:
توقفت حياتي منذ إصابتي بالوسواس القهري حين توفى أخي ومن ورائه أمي وأبي وبعضًا من اخوتي الآخرين، فـ أصبحت أعاني من وسواس الموت وحياتي شبه متوقفة بسبب الخوف المُلازم لي.
تابعت «زهرة»: ذهبت لطبيبة نفسية وكتبت لي دواء زاد من مرضي فأوقفته ولم أذهب لها مرةً آخرى، وصرتُ من بعدها حبيسة خوفي الذي يُشعرني أن لا حق لي في الحياة أو الفرح، فأنا وحيدة وكل أملي في الحياة أن يُطيل اللَّه من عُمري حتى آرى ابنتي في بيتها واطمأن عليها، ولكن خوفي يُخبرني أنني سأموت.
وأكملت «زهرة»: حاولت التقرب من اللَّه والالتزام في الصلاة ولكنني لم أفلح، فكلما وقفت لأصلي ازدادت ضربات قلبي وارتفعت حرارة جسدي لأتصبب عرقًا وانتفض خوفًا، فأخرج عن الصلاة ولا أكملها، وكل ما يشغل تفكيري هو خوفي من الموت وترك ابنتي وحدها في هذه الدنيا.
– «ماكنتش اعرف إن المريجوانا بتعمل هلاوس بالشكل ده، فافتكرت نفسي اتجننت خلاص»
حدثنا طارق – ٤٤ عام من مصر، عن تجربته مع المخدرات التي سببت له صدمة نفسية كانت الحافز لظهور الوسواس القهري:
بدأت مشكلتي مع أول صدمة نفسية مررت بها، فكانت لي تجربة أيام الشباب مع المخدرات، سببت لي هلاوس سمعية وبصرية مما جعلني أشعر بخوف شديد على نفسي وظننتُ أنني وصلت لمرحلة الجنون، ومن بعدها تكررت نوبات الهلع والخوف من الجنون.
وتابع «طارق»: كنت عندما آرى شخصًا مجذوبًا فالشارع أخاف أن أُصبح مثله وتأتيني النوبة، ومن بعدها صرتُ أخاف من الموت، ومن تواجدي بأي مكان لن أستطيع الهروب منه، فانعزلت في منزلي خوفًا من الخروج والموت بالخارج.
وأكمل «طارق»: ظلت آثار تلك الصدمة عالقة بذهني لسنوات طويلة، حتى ذهبت إلى الطبيب ووصف لي أدوية أتناولها يوميًا، ولكن هذا وحده لك يكفيني، لهذا اتجهت للقراءة لمعرفة مرضي أكثر وأكثر، حتى استطعت التغلب عليه وأصبحت الآن مُدربًا أقوم بمساعدة من هم مثلي، وأنشأت مجموعة على «فيس بوك» لتقديم كافة أشكال المساعدة، وتبادل الخبرات والتجارب، حتى نستطيع مقاومة هذا المرض والتخلص منه.
• «بيكون عبارة عن فكرة بتلح على الشخص وبتسيطر عليه فبتوقفله حياته»
تواصلنا مع الدكتورة خلود أحمد – إخصائي الطب النفسي، والتي حدثتنا عن اضطراب الوسواس القهري، وقالت:
يتكون هذا الاضطراب من عرضين أساسيين؛ أولًا تأتي فكرة متكررة للشخص ويكون غير قادر على مقاومتها، مثل عدم نظافة يديه، وفي البداية يستطيع الفرد عدم الاكتراث لها، ولكن مع تكرار الفكرة وإلحاحها على رأس الفرد تُصبح مقاومتها أصعب، والعرض الثاني يكون بأفعال قهرية يقوم بها الشخص، فعندما يتبع الفكرة فعل لا يستطيع الإنسان رفضه تبدأ المشكلة ويُصبح مرضًا أو اضطرابًا.
وأكملت «أحمد»: فـ مثلًا تكون الفكرة في النظافة الشخصية، فتُلِح على الشخص حتى يقوم بغسل يديه أكثر من مرة ويفقد سيطرته على مجابهة تلك الفكرة فيُصبح أسير لها، ويُعد وسواس النظافة الأكثر انتشارًا بين الناس ولكن الأغلب لا يهتم به.
وتابعت «أحمد»: هناك وسواس الترتيب والتنظيم أيضًا، وهنا لا يقتصر الأمر على مجرد ترتيب للأغراض ولكن الشخص يأخذ ساعات طويلة جدًا في تنظيم المنزل أو المكتب بأكمله حتى يستطيع الجلوس فيه والقيام بعمله، وإن تغير شيئًا أو تحرك من مكانه يُصيبه الغضب والجنون، وممكن أن يقوم بتكسير أي شئ أمامه، لمجرد أن ترتيب الأشياء اختلف.
• بيفكر المريض ساعتها إنه خلاص كده كفر»
قالت «أحمد»: يُعد وسواس الوضوء والصلاة من الأنواع المتطورة من الوساوس، فـ الطبيعي أننا جميعًا نسهو في الصلاة أو عند الوضوء، ولكن المريض يشعر دومًا بوجود نجاسة في ملابسه أو في نفسه فيضطر لقضاء أوقات طويلة في الطهارة، ويُمكن أن يستحم فقط حتى تذهب عنه هذه الفكرة، ويُعيد الصلاة أيضًا لاعتقاده أنه لم يُصلي بالشكل الصحيح، أو نسى عدد الركعات، ويظل هكذا طوال اليوم.
وتابعت «أحمد»: لا يقف الأمر عند هذا الحد، فقد يتطور ويشتد حتى يصل إلى سماع شتائم بداخله عن اللَّه عز وجل، وهنا يذهب به تفكيره أنه خرج عن الملة أو كفر، وخطورة هذا الأمر أنه من شدة احساس المريض بالذنب مما يسمعه من أصوات تسب الله، يُمكن أن يُقدم على إيذاء نفسه لإسكات هذه الأفكار والأصوات.
وأكملت «أحمد»: مشكلة الوسواس القهري تكمُن في سيطرته على حياة المريض، فيفقد الشخص تحكمه في حياته ويُصبح سجينًا لأفكاره وعبدًا لها، فـ تُسلب إرادته ويفعل ما تُمليه عليه رأسه فقط لإسكات هذه الأصوات وتهدئتها، وحين يرغب في مقاومتها يشعر بعدم الراحة ويُصيبه القلق والتوتر، ويمر بنوبة هلع تفقده الإحساس بما حوله.
وأوضحت «أحمد»: تحدُث نوبة الهلع هذه أو «panic attack» عندما يبدأ الشخص في مجابهة أفكاره ومقاومتها، فيرى عقله أن شيئًا من نظامه قد تغير، وتشتد الفكرة عليه فيُرسل عقله إشارات لجسمه أنه في خطر، فيشعر بقلق ويتفاعل جسده معه فتزداد ضربات قلبه ويضيق نفسه، ويتصبب عرقًا، ويفقد السيطرة على نفسه، وتستمر لدقائق حتى يهدأ ويعود لوعيه من جديد.
• «المرض النفسي موجود في چيناتنا ويُمكن أن نرثه من سابع جد»
واستطردت «أحمد»: العامل الوراثي له دور في الإصابة باضطراب الوسواس القهري، فـ المرض النفسي يتواجد في چينات الأشخاص جميعًا ويتوارث مثل أي مرض آخر، وحتى يظهر يحتاج إلى عامل حفاز، أي موقف صعب أو مِحنة يمر بها الشخص فتُحفز ظهوره، فـ جائحة كورونا مثلًا كانت سببًا لظهور العديد من الأمراض النفسية، وتأذى بسببها مرضى الوسواس القهري بشكل كبير.
وأكملت «أحمد»: أي شخص في أي مكان وأيًا كان عمره يُمكن أن يُصاب بالوسواس القهري، فهو لا يرتبط بـ عُمر معين، ولكنه يبدأ في الظهور غالبًا في مرحلة المراهقة، وبسبب صدمات مر بها الفرد أثناء طفولته، أو من خلال طريقة نشأته وتربيته، يُمكن أن يُصبح عُرضه أكثر للإصابة به، فـ إذا نشأت في أسرة تهتم بالترتيب والتنظيم والنظافة بشكل كبير جدًا، سيكون هذا هو الطبيعي بالنسبة لك، وإن تعرضت لأزمة يُمكن أن تُصبح حافزًا لظهور الوسواس في هذه النقطة.
• «لما يبتدي الشخص يصدق أفكاره بيتحول من الوسواس للفُصام»
تحدثت «أحمد» عن باقي أنواع الوساوس الشائعة، وقالت:
يُعد وسواس الموت من الوساوس المنتشرة أيضًا، وحينها يتوقف الشخص عن ممارسة أنشطة يومه الاعتيادية بسبب سيطرة تلك الفكرة على رأسه، فيدخل في حزن واكتئاب وينعزل عمن حوله، ويُمكن أن تراوده أحلام تؤكد هذا الشأن، ففي طبيعة الحال تأتي الأحلام لتُخرج الكامن في عقلنا الباطن، فيرى الشخص أحلامًا تؤكد موته، حتى أنه يرى تاريخ وفاته في الحلم أيضًا، ولكن إن تيقن الشخص من هذه الفكرة وأصبح يراها حقيقة، ينتقل هنا من اضطراب الوسواس إلى مرض «الفُصام»
وتابعت «أحمد»: فـ مريض الوسواس يعلم أن أفكاره غير حقيقية ومخاوفه وهمية، ولكنه لا يستطيع مقاومتها إلا بأفعال تساعد في تهدئتها، فـ مثلًا يُمكن أن يظن مريض الوسواس أن الناس حوله يتحدثون عنه، وتراوده تلك الفكرة ويُصبح شكاكًا، ولكن إن ثبُتت شكوكه في رأسه وتيقن من صحتها بداخله، يُصبح ما يراهُ ويعتقده ضلالات لا صحة لها، ويكون حينها مُصابًا بالفُصام مع الوسواس.
واستطردت «أحمد»: وعلى أية حال، جميع الأمراض النفسية مرتبطة ومتداخلة ببعضها البعض بشكلٍ أو بآخر، بسبب تشابه المواد الكيميائية الموجودة في المخ، ولكن التحول من مرض إلى مرض آخر غير مُستحب، فهنا يكون الأمر تطور عند المريض وصار أكثر تعقيدًا، لهذا أنصح الجميع بطلب الدعم النفسي عند بداية ظهور المشكلة، وعدم الانتظار حتى تتحول وتتحور إلى مشكلة أكبر وأصعب.
• «بنقول للمريض ساعتها إنه هياخد الدواء ده زي مريض السكر والضغط، يعني طول حياته»
وبسؤالها عن معدلات الشفاء من اضطراب الوسواس القهري، قالت «أحمد»:
للأسف احتمالات شفاء مريض الوسواس القهري ضعيفة مقارنةً بباقي الأمراض، لهذا عند تشخيص الحالة به، نبدأ على الفور بكتابة الأدوية اللازمة لإعادة مستويات مواد المخ إلى نسبتها الطبيعية حتى تهدأ تلك الأفكار، وبجانب ذلك نقوم بجلسات نفسية تُسمى «العلاج المعرفي السلوكي CBT»، ومن خلالها نقوم بتدريب الشخص على مقاومة أفكاره والتعامل معها، وتحويلها من مصدر قلق وتوتر، إلى تحدي يجب مجابهته بشجاعة والانتصار عليه.
وتابعت «أحمد»: تختلف كل حالة عن الآخرى في طريقة وسرعة استجابتها، ولكن في المتوسط يحتاج المريض إلى جلسات تمتد لـ 6 أشهر، تكون في بادئ الأمر أسبوعية، ومن ثم تتباعد حسب استجابة الحالة، ونبدأ مع المريض بجرعات معينة من الأدوية نُحددها تبعًا لتاريخه المرضي، ومن ثم نقوم بتقليلها وسحبها تدريجيًا، وإذا تحسن نوقف العلاج، وإن انتكس نُعيدها مرةٍ آخرى لفترة معينة ثم نسحبها تدريجيًا وهكذا، وإذا وجدنا أنه لايوجد تحسن بدون الأدوية بعد تجربتين علاج، نُخبر المريض أنه سيضطر لتناول هذا الدواء مدى الحياة.
وأضافت «أحمد» مبتسمة: لكن من ألطف المواقف التي نمر بها هى عندما يأخذ المريض علاجه، ولأول مرة تهدأ أفكاره، ولا يسمع صوتًا سوى نفسه، حينها نرى الشخص يتنفس الصعداء ويتسائل كيف كان يتحمل كل تلك الأفكار والأصوات في وقتٍ واحد؟
• «تلاقيكي محسودة، ماهو إنتي لو بس تبطلي تحطي صورك على فيس بوك»
وبسؤالها عن سبب رفض شريحة كبيرة من المجتمع للعلاج النفسي قالت «أحمد»:
للأسف يرفض الكثير في مجتمعنا الاعتراف بوجود الطب النفسي، ويربطون أي مرض نفسي بالمس، والسحر والحسد، وهكذا، وهذا بسبب خوفهم من أن يُقال عنهم أو عن ابنائهم «مجانين»، فأصبح المرض النفسي وصمة عار تلاحق كل المُعترفين والمُشخصين به.
وتابعت «أحمد»: أصبح الأسهل والأضمن لكثير من الناس، أن يقولوا على مريض القلق محسود أو «بيتدلع»، وحالة الوسواس القهري تكون ممسوسة وتحتاج «زار أو قُداس» ليُخرج ما عليها، فـ نرى المسلمين يذهبون إلى الشيوخ للرقية وقراءة القرآن، وإن فشلوا في إيجاد العلاج، يتوجهون إلى القسيس، والعكس صحيح ويحدث أيضًا، وكل هذا فقط لعدم الاعتراف والتصديق بوجود المرض النفسي، فكيف للفتاة أن تتزوج وهى مريضة نفسية؟ ماذا سنقول لزوجها؟ وهل الرجل المريض باضطراب نفسي سيورث مرضه واضطرابه هذا لأبنائه؟ وكل تلك المعتقدات والأفكار التي تجعل من الذهاب لطبيب نفسي أمرًا مستحيلًا.
• «الحقيقة بقى إن مافيش حاجة في الطب النفسي على مستوى العالم اسمها جنون أصلًا»
وأضافت «أحمد»: مشكلة الأشخاص الذين يعانون من الوسواس القهري هو عدم تصديق من حولهم لهم، فكل الأشعة والتحاليل والفحوصات تُخبرهم بسلامة أعضائهم وأجهزة جسمهم، فالمرض النفسي لا يظهر في أي تحاليل، وبسبب الإحراج من الذهاب للطبيب لعدم نعتهم بـ مجانين، يقضون حياتهم في معاناة شاقة، ولكن حقيقة الأمر أنه لا يوجد تشخيص في الطب النفسي اسمه جنون من الأساس، وماهو إلا مصطلح استخدمه الناس لوصف أي شئ خارج عن المألوف والمُعتاد عليه في مجتمعهم، وكل العلماء في بداية حياتهم وُصفوا بالجنون مثل «أينشتين».
وأكملت «أحمد»: بالإضافة لهذا، فأغلب الناس يربطون أي شئ يخص نفسية الإنسان بعلاقته مع ربه، فإن شعر بالحزن فمعنى ذلك أنه مُقصر في العبادة، إن فشل في عمله أو دراسته فتفسير هذا هو غضب اللَّه عليه، وهكذا، مما يجعل المرضى النفسيين يشككون في نفسهم وفي علاقتهم بـ ربهم، ويلجأ بعضهم للتقرب من اللَّه بعبادات إضافية، والحقيقة إن العبادة ستُخفف من حدة ما تشعر به حقًا وستُساعدك في مرضك لفترة معينة، ولكن بعدها ستحتاج أيضًا للدعم النفسي وتناول الأدوية إن تطلب الأمر، فلقد أمرنا اللَّه عز وجل بالأخذ بالأسباب.
• «الناس عايزة تخف بسرعة، وللأسف مافيس حاجة في الطب النفسي اسمها كده»
وبسؤالها عن أسباب ارتفاع أسعار الكشف لدى الأطباء النفسيين، قالت «أحمد»:
تتفاوت أسعار الأطباء النفسيين تبعًا لخبراتهم وشهادتهم وهكذا، ولكن مشكلة الناس إنهم لا يثقون إلا في أصحاب الكشف المرتفع أو الأطباء المشهورين والمعروفين على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الإجتماعي، وهذا يُحملهم تكاليف عالية تجعل العلاج النفسي صعب بالنسبة لهم.
وأكملت «أحمد»: بالإضافة لهذا، نجد أن الشخص عندما يذهب لطبيب نفسي ويُخبره في نهاية الجلسة أنه بحاجة لعدة جلسات آخرى، وأنها ستستمر لفترة من الزمن، يخرج من عنده قائلًا: «شوف الدكتور اللي دفعلته شئ وشويات وبرضه لسه ماخفتش»، فالناس تريد الشفاء سريعًا عكس طبيعة المرض النفسي الذي يحتاج إلى متابعة مستمرة لأشهر وسنوات أيضًا.
وتابعت «أحمد» موضحة: وفرت الدولة الآن العديد من العيادات النفسية في كافة المستشفيات الحكومية والجامعية، بالإضافة للجمعيات الشرعية، والخدمات التي توفرها مؤسسة كـ «مرسال» مثلًا، مما جعل العلاج النفسي أسهل وبتكاليف أقل، فـ كل ما يحتاجه الشخص فقط هو البحث عما يناسبه.